مع الفنان والناقد التشكيلي العراقي عامر فتوحي
عامر فتوحي ... في بيت الجنون
بغداد : اليمامة


الفنان والناقد التشكيلي العراقي عامر فتوحي غني عن التعريف في العراق فقد ساهم في العديد من المعارض الفنية الوطنية وحاز عام 1984م على جائزة النقاد الخاصة في مهرجان الواسطي الرابع ، كما قدم معرضاً شخصياً عام 1981م ببغداد ، إضافة إلى كتاباته النقدية ودراساته التشكيلية وترجماته فقد ترأس ولثلاثة أعوام قسم الفنون التشكيلية لمجلة فنون التي تصدر عن وزارة الثقافة والأعلام العراقية ، كما صدرت له مؤخراً رواية عن دار القادسية للطباعة والنشر ، والفنان فتوحي يعد اليوم واحداً من أبرز الفنانين التشكيليين الشباب في العراق وأوسعهم مخيلة ونشاطاً ، بمناسبة معرضه الشخصي الثاني (بيت الجنون) على قاعة كاليري الرواق - قاعة العرض الأولى في العراق- كان لنا معه هذا الحوار

● لماذا أخترت (بيت الجنون) عنواناً لمعرضك الشخصي الثاني وهل ثمة علاقة ما تشده بمعرضك الشخصي الأول (الزمن الصعب) بغداد 1981م؟

- العلاقة موجودة وراسخة والعلاقة القائمة ما بينهما هو أنا ورؤيتي المستمدة من العالم المعاش ، والحق فإن (بيت الجنون) هو أمتداد (للزمن الصعب) الذي نعيش تحت وطأته وفي ظل قوى قادرة ومتمكنة من سحق كل ما يعترض قيمها وأساليب نموها وطرائق هيمنتها ، ووظيفتي كفنان شجب هذه المفاهيم وتعرية رموزها بالأداة الأقدر على التعبير عندي وهيّ الفرشاة ، دون السقوط في مطب الهتافية والمباشرة الفجة التي قد تجعل من العمل الفني مانفستو إدانة ليس إلا.

● أن المتابع لأعمالك يشعر بلا أستقرارها أسلوبياً وهذا ما تؤشره أعمالك نفسها كيف تفسر هذا؟ - من الطبيعي أن أشير إلى أن الثبات عند أي حد من العملية الإبداعية هو المرادف الطبيعي للموت الفسيولوجي (العضوي) ورغم إنتقالي من أسلوب معالجة إلى آخر حقيقة أكيدة إلا أنني أشعر أن من حق الفنان أن يعالج موضوعه بالأسلوب الأقدر على التواصل مع المتلقي ومع ذلك لا بد لي من الإشارة إلى حقيقة أساسية إضافة إلى ما ذكرت ، فعند بدء مساهمتي في المعارض الفنية لاقيت رفضاً شديداً وكان هذا مصير جميع الأعمال التي قدمتها خلال السنوات 76-1980م ، ذلك أنني كنت أعتمد أسلوباً تبسيطياً قريباً من نفسي ، إذ يمكنني من التحرك بين منطقتي التجريد والتشخيص ويكاد يمس إلى حد ما إسلوب الإختزال من خلال كم من الرموز المكثفة ، غير أن حجم الإستفزاز الذي كان يثيره والمشاكسات التي كانت تتوزعه ، كل ذلك أدى بموظفي المؤسسات الفنية التقليدية إلى التخوف (غير المبرر) حتى من مجرد قبول العمل ، ورغم أنني قد خضت تجربة (الزمن الصعب) بهذا الأسلوب إلا أن الجدل الذي أثاره وما أنعكس عنه من آثار شديدة ، كل ذلك جعلني أعيد النظر في طريقة ولوجي إلى معترك التشكيل العراقي ، ولذا قررت أن أدخل معركتي الثانية بالرؤية ذاتها ولكن بأسلوب لا يثير حفيظة أي كان ، والحق أن هذا ليس إذعاناً مني لواقع الأمر قدرما هو صفعة قوية لكل من أتهم أمكاناتي ، كما وأنه في الوقت ذاته تنبيه لكل من كرس له من فناني الواجهة الرسميين الذين يعلمون أنهم قد أنتهوا فنياً وأن بقاءهم رهن بمواقعهم الإدارية وتنفذهم بواقع الحركة التشكيلية من خلال قدرتهم الهائلة على التلون والمداهنة ، وأنا أود أن أؤكد بأنني لم أنقطع يوماً عن تنفيذ أفكاري بالأسلوب الذي أطمح مستقبلاً أن أقدم نفسي من خلاله وكما تقول الحكمة الشائعة أن غداً لناظره قريب .

● يلمح البعض إلى أن أعمالك أوربية الرؤية والمعالجة وأنك لا تستلهم من التراث ولا تأخذ من ينبوع الفولكلور؟
- هنالك جدل ونقاش قائم على قدم وساق عن معنى وجدوى وطرائق إستلهام الفولكلور، وأنا لا أجد نفسي في كل هذا وأرى أننا طالما ننتمي إلى الإنسانية جميعها وأننا ورثة أنجازات الحضارات جميعها ، فإن من الخطأ أعتماد رموز وأشكال معينة عند معالجة موضوع ما ، لذلك فأنا أحترم كل الثقافات وأحترم كل الحضارات وآخذ منها على الرغم من إنتمائي إلى عرق موغل في التاريخ وهم (الكلدانيون) ، إلا أن من السخف أن يعتقد البعض بأن الشناشيل والأهوار والخيول وخيام البدو هيّ كل التراث وكل الفولكلور . من ناحية ثانية أن أساليب الرسم والنحت التي نتبعها هيّ أوربية فلماذا كل هذه المغالطات ، وهل تستطيع أن تبرهن لي أن نصب الجندي المجهول مستمد من التراث وهل تقدر أن تبرهن لي بأن نصبي شهريار وشهرزاد ، وكهرمانة هما تراثيين أو معالجين من زاوية نظر عربية سليمة ، أنا أستطيع أن أدحض كل من يقول ذلك ، لذا فأنا لا أجد معنى لهذا اللغط المثار إلا المتاجرة والإستعراض والمداهنة الرخيصة .

● الملفت للنظر في أعمالك هو أنها تنحو نحو التصميم أكثر من أعتمادها على إنشاءات تكوينية ، هل مرد ذلك إلى طبيعة دراستك العلمية - هندسة الطائرات - وكيف تفسر ذلك؟
- يبدو أنني لن أنجو مطلقاً من لعنة الطائرات ، مع ذلك وقبل أن أجيبك أتمنى أن لا يستمر الحوار بيننا مقتصراً على معرضي أو عني (شخصياً) من خلال المعرض وإنما أن يمتد ليتناول الواقع التشكيلي الحقيقي في العراق اليوم ، لا سيما وأن هذا الجانب يكتنفه الكثير من اللبس والتضبيب ، ومما ساعد على هذه الحساسية الزائدة حفنة من الصحفيين وتقليدية البعض الآخر ، إضافة إلى العلائق الوطيدة والحميمية التي تشد بعض النقاد والمحسوبين على الكتابة التشكيلية في الصحف بالفنانين الذين يمثلون الواجهة الوحيدة والمتنفذة بالفن التشكيلي في العراق ، ويهمني أن يعرف القراء بأن الحرص الشديد على سلامة المسيرة التشكيلية التي أسس لها عبد القادر الرسام وزيد محمد صالح وسليم بك وناطق بك وبالتالي الرعيل الأول من الفنانين المحدثين جواد سليم وفائق حسن وكاظم حيدر ومحمود صبري ، ينبغي أن تسير بالشكل الطبيعي وأن تحترم تضحية الرواد الأوائل وأن يقابل إيثارهم بما يماثله من تضحية وإيثار ولاسيما وأن الدولة قد دعمت الفن والفنانين بكامل طاقتها وأنجزت لهم ما كان إلى وقت قريب بعيد المنال .

● أتفقنا، ولكن لنعد إلى السؤال السابق. - حسناً، الفن في يومنا هذا يتحرك بواقع تصميم اللوحة ، ذلك لأن اللوحة التي تعتمد التصميم لا تعمد إلى العفوية قدرما تعتمد على العقلنة التي توائم العصر، وأنا كرجل علمي، أعتمد صيغاً تخدم عملي مضموناً وتضفي عليه أناقة وبعداً جمالياً يتطلبه العمل الفني ضمن شروطه الأساسية ، وهذا قد يكون له علاقة ما بطبيعة دراستي أو لا يكون، أعتقد أن هذا ليس بذي بال ، لاسيما وأنا أبغي التواصل مع وجدان وعقل المتلقي في آن واحد .

● بما أنك من جيل الشباب الجديد، فما هو واقع الحركة التشكيلية التي يخوضها الشباب ولماذا لم نعد نرى تجمعات فنية كتلك التي حدثت في ستينات هذا القرن وبالتالي ما هو تصورك عن المستقبل؟ - أن أهم ما يميز الحركة التشكيلية في العراق هو أنها قد نشأت على أكتاف الرسامين الشباب وتابعت مسيرتها من خلال الشباب ويبدو أن قدرها مرهون بالشباب، في مطلع الستينات وحتى نهاية النصف الثاني من ذلك العقد نشأت وبدافع الضرورات المرحلية تجمعات فنية جادة كان أبرزها جماعة المجددين وجماعة الرؤية الجديدة، غير أن ضرورات الحياة قد تغيرت كما أن النكسة الهائلة التي حدثت في البنية الأجتماعية بعد عام 1967م قد أدت إلى إنكفاء الحركة التشكيلية والثقافية بشكل عام، وقد أنعكست آثار هذا الإنكماش الخطير مطلع السبعينات نتيجة للمستجدات التي حدثت في البنية الثقافية والإجتماعية والإقتصادية والتربوية، لذا لم يبرز عندنا في خضم كل هذا أي أسماء أو تجمعات جديدة خلال ذلك العقد ولم يسجل أي حضور مؤثر ومهم لفنان شاب، غير أن مطلع الثمانينات شهد نهوضاً واضحاً وجلياً وأخذت تبرز أسماء واعدة يمتد تاريخ البعض منها إلى النصف الثاني من عقد السبعينات المضطرب ومن هذه الأسماء المهمة زياد حيدر وفاخر محمد وعلى المندلاوي وكريم سيفو ونديم محسن ومحمد مهذول وعاصم الأمير ومحمد صبري وهيمت محمد على وفوزي رسول وإيمان علي وحيدر خالد من الرسامين وأسماري بن مسلم وعامر خليل الناصر من النحاتين.

● كيف تفسر الإلتزام في اللوحة وهل تعتقد أن أعمالك ماتزمة؟ - الألتزام في تصوري هو الأخلاص للعمل الفني من خلال الإبداع والإبتكار والإضافة الفنية وهذا كله في المحصلة إغناء وإخلاص للإنسانية دون الدخول في لعبة الإيديولوجيات والهتافات التي يجيد البعض أستخدامها ويعرف كيف يستفاد منها، ولكي أضعك في الصورة أقول بوضوح أكبر أن رافع الناصري فنان ملتزم وهو أكثر أخلاقية وثورية وإلتزاماً بمصلحة الإنسان ورقي أفكاره وذوقه من بعض المتطرفين الذين يتباكون على الإنسانية الجريحة والتراث المستلب وما إلى ذلك، في حين تأتي أعمالهم لتكشف عمق التخلف الفني الذي يعيشونه وقصور الأفكار التي يطرحونها ولا من معين لهم لتبوؤ المكانات المتقدمة في ساحة التشكيل إلا حرصهم التقدمي وما يؤدون من مهام بعيدة كل البعد عن العمل الفني، وبهذا الصدد أشير إلى أن ضياء العزاوي فنان ملتزم ومهر الدين فنان ملتزم وعلي طالب وأسماعيل الترك وأسماعيل خياط هم فنانون ملتزمون وتقدميون وفق رؤاهم الفنية، أما إذا كنت تقصد الأتكاء على الأيديولوجيات والتعكز على الأفكار المستمدة من الخطب والبيانات فإنني لا أتفق مع هذا الخط وأعتقد أن ممارسيه هم نمط من المداهنين والمصلحيين ولا أدل على ذلك إلا الرجوع إلى تاريخهم الشخصي، وأحسب أن في هذا الكفاية لكشف مدى وصوليتهم وتجنيهم على الفن والفنانين وحجم إساءتهم للعملية التشكيلية في العراق، أما عن أعمالي فأنا أترك مسألة تقييمها للنقاد الجادين والمخلصين لنزاهة الكلمة.

● بصفتك رسام معروف وناقد متميز بأسلوب كتابتك الجادة ومن خلال لقاءاتك بالفنانين العراقيين ومعرفتك المستمدة من واقع الحال ومن خلال أشرافك لثلاث سنوات على قسم الفنون التشكيلية بمجلة فنون، هل لك أن تدلي لنا بأنطباع سريع عن ماهية الحالة التشكيلية في العراق اليوم؟ - الحق لا أريد أن أكون متفائلاً، لأن هنالك الآن أشياء كثيرة لا تدعو لمثل هذا ولكنني في الوقت نفسه لست متشائماً، هنالك فنانون يثابرون بعزيمة ومحبة من أجل أن تظل مسيرة الفن التشكيلي العراقي سليمة، واعدة، رائدة وخلاقة ولا يفوتني أن أذكر بهذا الصدد عدداً من أهم الفنانين المضحين على الرغم من أنني قد لا أكون متفقاً مع طريقة البعض في التفكير والمعالجة ومن هؤلاء ضياء العزاوي، رافع الناصري، صالح الجميعي، أرداش كاكافيان، محمد مهر الدين، أسماعيل خياط، علي طالب، أسماعيل فتاح الترك، مهدي مطشر، وعلاء بشير، ودارا حمة سعي، كما أن عدد لا بأس به من الفنانين الشباب الذين يرتكزون إلى أرضية صلبة من المعرفة والثقافة الفنية والفكرية إضافة إلى التمكن من الأدوات الفنية يقف إلى جانب من ذكرت يمدونهم بحماسهم وجرأتهم ويأخذون عنهم أخلاصهم وجديتهم ومنهم زياد حيدر وفاخر محمد وعلي المندلاوي وأسماري بن مسلم.

● هل تتصور بأن النقد فاعل ومؤثر في العراق، لا سيما بعد أنبثاق رابطة النقاد التشكيليين في العراق وأرتباطها برابطة النقاد العالمية؟
- مما لا شك فيه أن النقد في العراق أصبح واقعاً معترف به وبدوره المهم في العملية الإبداعية ولكن هنالك بعض المفارقات التي أود أن أشير إليها، أولاً هنالك نقاد متخصصون في الكتابة التشكيلية كسهيل سامي نادر وفاروق يوسف ونوري الراوي وشاكر حسن آل سعيد إضافة إلى عدد آخر من النقاد الذين تعوزهم جدية ومنهجية من ذكرت، كما أن هنالك العشرات من كتاب الصحف وموظفي وموظفات الصفحة الأخيرة الذين يتابعون الأنجازات التشكيلية بالخبر المطول والمقابلة والعرض والتقديم الصحفي وواقع الحال يشير بأن هذا النمط من الكتابة تعوزه الكثير من أساسيات الثقافة التشكيلية، من ناحية أخرى فقد كنا قد أستبشرنا خيراً عندما دعينا لمناقشة صيغة إنشاء رابطة للنقاد التشكيليين، غير أننا فوجئنا بالنصاب الذي أنبثق عن المؤتمر، ومما زاد في دهشتنا الأنتخابات اللاحقة بعد أنسحاب عدد من النقاد المؤسسين، وتأكدنا بمرور الوقت بأن الرابطة قد بدأت بالإنكماش وأن فعالياتها قد أنخفضت بشكل بات يهدد وجودها لاسيما بعد أنخفاض عدد ونوعية الأماسي والندوات من جهة وعدم صدور المجلة التي وعدنا بها منذ المؤتمر التأسيسي الأول عام 1982م. كما راح يشغل كل أهتمام الأعضاء مواضيع من نوع الإيفاد والسفر للمساهمة في في التعريف بواقع الوضع التشكيلي المحلي ودور الرابطة الفاعل في أغناء هذا النشاط!! ويبدو لي أن هذا النشاط سوف يتركز على هذا الجانب حتى يصار إلى إيجاد نصابات بديلة أكثر جدية وأكثر حرصاً على سلامة الحركة التشكيلية، لا سيما وأن نصف شاغلي مقاعد الرابطة لا يدرون أنفسهم لم هم يشغلون هذه المقاعد!!

● هل من إضافة أخيرة؟ - نعم، أنا مؤمن بأن قدر العراقيين أن يظلوا قادة وطلائعيين في الأنجازات الثقافية أسوة بما هم عليه في المجالات الأخرى، لا سيما وأن الفنان التشكيلي قد تعززت له هذه المكانة من خلال توفير كافة أحتياجاته اللأزمة للعملية الإبداعية، غير أن جلّ ما أخشاه أن تطول فترة التمييع والهلامية التي يكرس لها نفر من الفنانين المتنفذين بواقع الحال التشكيلي في القطر من خلال الإستغلال السيء لمفردات من نوع التراث، الأصالة، الوطنية، القومية، خدمة لمصالحهم الآنية على حساب الإبداع وسلامة المسيرة التشكيلية . ■

اليمامة - العدد 917 - الأربعاء 8 ذو الحجة 1406هاالموافق للعام 1985م