معرض حصار ... أو الفن الذي سيأتي
ثقافة : جريدة القادسية


عامر فتوحي وبرهان صالح رسامان أختارا أن يقدما تجربتهما في معرض مشترك .. أقيم مؤخراً في مركز الفنون ... هل هو أنسجام فني أم دوافع أخرى وراء هذا العرض الثنائي، الفنان عامر فتوحي الذي وقف وراء هذه التجربة كتب لنا موضحاً:

أن تجربة معرض حصار كانت تراودني منذ عام 1984م غير أن ما فجر في أعماقي الرغبة من جديد من أجل تقديمه هو حالة الحصار اللأنساني المفروض على العراق والتي تتنافى وكل التعاليم والقيم السماوية منها أو الوضعية وقد ألتقيت في هذه التجربة مع فنان تجريبي آخر من طرازي هو الرسام والحفار برهان صالح محمد الذي هو أصلاً أحد الأعضاء المؤسسين لجماعة (أفق) التي كنت قد دعيت لتأسيسها مطلع عام 1986م، وقد كان هذا اللقاء لرغبتنا في تقديم زخم من الأنطباعات التي لا بد وأن تحتوي أي رد فعل سواء دخل حساباتنا أم لم يدخل.
في أعمال الحفر على الخشب التي عرضها برهان بطريقتين نفذ الأولى بشكل أعتيادي مؤكداً نقل أنفعالاته الطازجة في الخشب المحفور إلى سطح الورقة فيما أكتفى في الثانية بمسح خشبة الحفر بالحبر مما أدى إلى تكثيف الطاقة التعبيرية لخطوطه ومنحها حرارة أكبر في التفاعل مع المتلقي بخاصة حينما أكد على أولوية العلاقات البصرية بين الأسود القاسي والأصفر المشع والأوكر الحيوي الأنثوي ... وكأنما أراد أن يستطرد في البوح عن أنشغالاته ومشاعره الجوانية فأعتمد في رسومه التي تمتلك خاصية النمو النفسي والجيشان العاطفي على التضاد الموحي بالحياة بين خطوطه القوية المكتنزة بالأصباغ والمصنوعة بشكل ذكي ومدروس والإسترخاء اللوني الذي توحي به المساحات المعمولة وفق خبرة يحسده عليها الكثيرون في التعامل مع السطوح المركبة ، ومما ساعد على نجاح أعماله في التواصل مع الآخر، رهافة حسه وطواعية أنامله وقدرته المتكيفة على التعامل مع الخامات المختلفة بروحية الساحر والمغامر في آن ...

بالنسبة لي أعتقد أن أعمالي المقدمة في معرض (حصار) هيّ بمثابة الإستيقاظ المفاجيء جراء ردة فعل عضوية من كابوس ليلي طويل لذلك فأنني هنا لا أودع وحشي المزدوج الأدوار حسب وإنما أؤبنه ، فبعد تجريب طويل ومريرعلى أستخدام الكركدن دام سنوات تقارب الخمسة عشر تبين لي أن تلك القوى غير المعقلنة (القدرة الساحقة والغبية) كشفت مرة واحدة في عريها عن هزالتها ، وأن جدران الوهم العالية التي شيدت حولنا هيّ من نسج عقولنا المنهكة بالتفاصيل وهيّ وحدها من تصنع أساطير الغيلان والمردة.

غير أنني وأنا أؤبن وحشي الفني لم أرد أن أقفز هكذا أعزلاً في العتمة لا سيما وأن الهوية الوطنية في الفن التي أسس لها الراحل الكبير جواد سليم لم تقطع إلا مسافة محدودة ، فمنذ منتصف الستينات راح يطفو على السطح خليط عجيب من المتناقضات الأسلوبية والتقنية تخضع أغلبها لعقلانية يونانية ولاتينية أولاً وغربية ثانياً، ووجدت أن الخيبة التي تلت عقد الستينات المضطرم قد أنعكست على الفن المحلي مما أدى إلى ظهور أزمة وجود وكرد فعل أولي على هذه الأزمة فقد تطلع معظم السبعينيين إلى أحد أتجاهين تمثل أولهما في العودة إلى التعامل مع الفولكلور والبيئة المحلية بشكل زخرفي وسياحي، أما الآخر فقد تمثل في إستعارة الأساليب العالمية منذ بدء عصر الحداثة ولم ينج من هذه الردة إلا ثلاثة فنانين أجادوا إستيعاب التراث الرافدي العراقي العظيم وأجادوا المزاوجة بينه وبين متطلبات العصر فأنتجوا أعمالاً حديثة وأصيلة معاً ... وقد جاء عقد الثمانينات بظروفه الإستثنائية ليؤدي بالشباب إلى السقوط في فخ الإستعارة ممن سبقهم ومن الفن الغربي إلى حد الإستغراق التام ، وهكذا صرنا نواجه في قاعات العرض عندنا أعمالاً ممسوخة سيئة الإستعارة والتنفيذ عن فنانين كبار من طراز فان كوخ وجورج روو وشيم سوتين وأميل نولدة وأتوديكس وجورج جروز وهورست أنتيس وألين جونز وفرانسيس بيكون وجان دوبوفية.

وخلافاً لكل ما جرى ويجري فقد تمخض بحثي في السنوات المنصرمة الأخيرة عن أكتشاف الطاقة البلاستيكية الهائلة للكتابة الوركائية (أوروك - سومر، الألف الرابع قبل الميلاد) وهكذا رحت أنفذ أعمالي الطباعية (مونوتايب) ورسومي أولاً بشكل توفيقي، وذلك عن طريق إسقاطها على وحشي الذي أجريت عليه عدداً من عمليات التورية حتى توصلت آخر الأمر إلى إقصائه عن عالمي ... أن أعمالي (الأوروكية) هذه هيّ بشكل ما رد عملي على طوفان الإنقياد الثمانيني الأعمى للأساليب الأوربية بخاصة وأن هذه النبع النقية تسعنا جميعاً وهيّ أذن تحية وفاء لروح جواد سليم معلمنا الأول ..

القادسية - الثلاثاء 26 ايار 1992م